فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{إياك نعبد وإياك نستعين} وقبل أن نتكلم عن قول الحق تبارك وتعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}.. لابد أن نتحدث عن قضية هامة.. فهناك نوعان من الرؤية.. الرؤية العينية أي بالعين.. والرؤية الإيمانية أي بالقلب.. وكلاهما مختلف عن الآخر.. رؤية العين هي أن يكون الشيء أمامك تراه بعينيك، وهذه ليس فيها قضية إيمان.. فلا تقول أنني أومن أنني أراك أمامي لأنك تراني فعلا.. مادمت تراني فهذا يقين.. ولكن الرؤية الإيمانية هي أن تؤمن كأنك ترى ما هو غيب أمامك.. وتكون هذه الرؤية أكثر يقينا من رؤية العين.. لأنها رؤية إيمان ورؤية بصيرة.. وهذه قضية هامة.
وقد روي عمر بن الخطاب قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلي النبي صلى الله عليه وسلم. فأسند ركبتيه إلي ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا رسول الله. وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت أن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فاخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وتؤمن القدر؛ خيره وشره قال: صدقت. قال: فاخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فأنه يراك. قال: فاخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فاخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت مليا.. ثم قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم». رواه مسلم.
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» هو بيان للرؤية الإيمانية في النفس المؤمنة.. فالإنسان حينما يؤمن، لابد أن يأخذ كل قضاياه برؤية إيمانية.. حتى إذا قرأ آية عن الجنة فكأنه يرى أهل الجنة وهم ينعمون.. وإذا قرأ آية عن أهل النار اقشعر بدنه.. وكأنه يرى أهل النار وهم يعذبون. ذات يوم شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد صحابته وكان اسمه الحارث.. فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا قال الرسول: فانظر ما تقول. فإن لكل قول حقيقة. فما حقيقة إيمانك؟ قال الحارث: عزفت نفسي عن الدنيا. فأسهرت ليلي. وأظمأت نهاري. وكأني انظر عرش ربي بارزا. وكأني انظر إلي أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني انظر إلي أهل النار يتضاغون فيهايتصايحون فيها قال النبي «يا حارث عرفت فالزم».
رواه الطبرانى في الكبير، وابو نعيم في الحلية ورواه بنحوه الالبيهقى وابو هلال العسكري في الأمثال، وابن النجار في التاريخ وللحديث شواهد ترقى به إلى درجة الحسن وقد رواه البيهقى في الزهد عن الحارث بن مالك قال اتيت نبى الله صلى الله عليه وسلم وقد اخذ ردائه فلييه فوضعه تحت رأسه فسلمت عليه فقال لى: كيف انت يا حارث؟فقلت رجل من المؤمنين فقال انظر ماذا تقول؟ قال: قلت نعم رجل من المؤمنين حقا.
فاستوى صلى الله عليه وسلم جالسا وقال لكل شيء حقيقة..فما حقيقة ذلك؟قال قلت عزفت نفسى عن الدنيا فأسهرت ليلى، واخصمت نهارىوكأنى انظر إلى عرش ربى كأنى رأيت أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى اسمع عواء أهل النار فيها..فقال عرفت فالزم، عبدا نور الله قلبه بالإيمان.
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى وهو يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم.. يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} [سورة الفيل: 1].
يأخذ بعض المستشرقين هذه الآية في محاولة للطعن في القرآن الكريم.. فقوله تعالى: {ألم تر}.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل.. أنه لم ير لأنه كان طفلا عمره أياما أو شهورا.. لو قال الله سبحانه وتعالى ألم تعلم.. لقلنا علم من غيره.. فالعلم تحصل عليه أنت أو يعطيه لك من علمه.. أي يعلمك غيرك من البشر.. ولكن الله سبحانه وتعالى قال: {ألم تر}..
نقول أن هذه قضية من قضايا الإيمان.. فما يقوله الله سبحانه وتعالى هو رؤية صادقة بالنسبة للإنسان المؤمن.. فالقرآن هو كلام متعبد بتلاوته حتى قيام الساعة.. وقول الله: {ألم تر}.. معناها أن الرؤية مستمرة لكل مؤمن بالله يقرأ هذه الآية.. فما دام الله تبارك وتعالى قال: {ألم تر}.. فأنت ترى بإيمانك ما تعجز عينك عن أن تراه.. هذه هي الرؤية الإيمانية، وهي أصدق من رؤية العين.. لأن العين قد تخدع صاحبها ولكن القلب المؤمن لا يخدع صاحبه أبدا.. على أن هناك ما يسمونه ضمير الغائب.. إذا قلت زيد حضر.. فهو موجود أمامك.. ولكن إذا قلت قابلت زيدا.. فكأن زيدًا غائب عنك ساعة قلت هذه الجملة.. قابلته ولكنه ليس موجودًا معك ساعة الحديث..
إذن فهناك حاضر وغائب ومتكلم.. الغائب هو من ليس موجودًا أو لا نراه وقت الحديث.. والحاضر هو الموجود وقت الحديث.. والمتكلم هو الذي يتحدث. وقضايا العقيدة كلها ليس فيها مشاهدة، ولكن الإيمان بما هو غيب عنا يعطينا الرؤية الإيمانية التي هي كما قلنا أقوى من رؤية البصر.
فالله سبحانه وتعالى حين يقول: {الحمد لله رب العالمين} الله غيب، و{رب العالمين} غيب، و{الرحمن الرحيم} غيب و: {مالك يوم الدين} غيب.. وكان السياق اللغوي يقتضي أن يقال إياه نعبد. ولكن الله سبحانه وتعالى غير السياق ونقله من الغائب إلي الحاضر.. وقال: {إياك نعبد} فانتقل الغيب إلي حضور المخاطب.. فلم يقل إياه نعبد.. ولكنه قال: {إياك نعبد}.. فأصبحت رؤية يقين إيماني.
فأنت في حضرة الله سبحانه وتعالى الذي غمرك بالنعم، وهذه تراها وتحيط بك لأنه: {رب العالمين}.. وجعلك تطمئن إلي قضائه لأنه: {الرحمن الرحيم} أي أن ربوبيته جل جلاله ليست ربوبية جبروت بل هي ربوبية: {الرحمن الرحيم} فإذا لم تحمده وتؤمن به بفضل نعمه التي تحسها وتعيش فيها. فأحذر من مخالفة منهجه لأنه: {مالك يوم الدين}.
حين يستحضر الحق سبحانه وتعالى ذاته بكل هذه الصفات.. التي فيها فضائل الألوهية، ونعم الربوبية.. والرحمة التي تمحو الذنوب والرهبة من لقائه يوم القيامة تكون قد انتقلت من صفات الغيب إلي محضر الشهود.. استحضرت جلال الألوهية لله وفيوضات رحمته.. ونعمه التي لا تحد وقيوميته يوم القيامة..
عندما تقرأ قوله تعالى: {إياك نعبد} فالعبارة هنا تفيد الخصوصية.. بمعنى أنني إذا قلت لإنسان أنني سأقابلك، قد أقابله وحده، وقد أقابله مع جمع من الناس. ولكن إذا قلت إياك سأقابل.. فمعنى ذلك أن المقابلة ستكون خاصة..
الحق سبحانه وتعالى حين قال: {إياك نعبد} قصر العبادة على ذاته الكريمة.. لأنه لو قال نعبدك وحدك فهي لا تؤدي نفس المعنى.. لأنك قد تقول نعبدك وحدك ومعك كذا وكذا. ولكن إذا قلت: {إياك نعبد} وقدمت إياك.. تكون قد حسمت الأمر بأن العبادة لله وحده.. فلا يجوز العطف عليها.. فالعبادة خضوع لله سبحانه وتعالى بمنهجه افعل ولا تفعل.. ولذلك جعل الصلاة أساس العبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله.. لأنك تأتي بوجهك الذي هو أكرم شيء فيك وتضعه على الأرض عند موضع القدم. فيكون هذا هو منتهى الخضوع لله.. ويتم هذا أمام الناس جميعا في الصلاة. لإعلان خضوعك لله أمام البشر جميعا.
ويستوي في العبودية الغني والفقير والكبير والصغير.. حتى يطرد كل منا الكبر والاستعلاء من قلبه أمام الناس جميعا فيساوى الحق جل جلاله بين عباده في الخضوع له وفي إعلان هذا الخضوع.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {إياك نعبد} تنفي العبودية لغير الله.. أي لا نعبد غير الله ولا يعطف عليها أبدا.. إذن: {إياك نعبد} أعطت تخصيص العبادة لله وحده لا إله غيره ولا معبود سواه.. وعلينا أن نلتفت إلي قوله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَة إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [سورة الأنبياء: 22].
وهكذا فإننا عندما نقول: {الحمد لله} فإننا نستحضر موجبات الحمد وهي نعم الله ظاهرة وباطنة.. وحين نقول: {رب العالمين} نستحضر نعم الربوبية في خلقه وإخضاع كونه.. وحين نستحضر: {الرحمن الرحيم} فإننا نستحضر الرحمة والمغفرة ومقابلة الإساءة بالإحسان وفتح باب التوبة.. وحين نستحضر: {مالك يوم الدين} نستحضر يوم الحساب وكيف أن الله تبارك وتعالى سيجازيك على أعمالك.. فإذا استحضرنا هذا كله نقول: {إياك نعبد} أي أننا نعبد الله وحده.. إذن عرفنا المطلوب منا وهو العبادة.
وهنا نتوقف قليلا لنتحدث عما يطلقون عليه في اللغة العلة والمعلول إذا أراد ابنك أن ينجح في الامتحان فإنه لابد أن يذاكر.. وعلة المذاكرة هي النجاح.. فكأن النجاح ولد في ذهني أولا. بكل ما يحققه لي من مميزات ومستقبل مضمون وغير ذلك مما أريده وأسعى إليه.
إذن فالدافع قبل الواقع.. أي أنك استحضرت النجاح في ذهنك.. ثم بعد ذلك ذاكرت لتجعل النجاح حقيقة واقعة. وأنت إذا أردت مثلا أن تسافر إلي مكان ما.. فالسيارة سبب يحقق لك ما تريد وقطع الطريق سبب آخر. ولكن الدافع الذي جعلني أنزل من بيتي واركب السيارة وأقطع الطريق.. هو أنني أريد أن أسافر إلي الإسكندرية مثلا.. الدافع هنا وهو الوصول إلي الإسكندرية.. هو الذي وجد والله سبحانه وتعالى خلقنا في الحياة لنعبده.. مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات: 56].
إذن فعلة الخلق هي العبادة.. ولقد تم الخلق لتتحقق العبادة وتصبح واقعا.. ولكن العلة والمعلول لا تنطبق على أفعال الله سبحانه وتعالى.. نقول ليس هناك علة تعود على الله جل جلاله بالفائدة. لأن الله تبارك وتعالى غني عن العالمين.. ولكن العلة تعود على الخلق بالفائدة.. فالله سبحانه وتعالى خلقنا لنعبده. ولكن علة الخلق ليس لأن هذه العبادة ستزيد شيئا في ملكه.. وإنما عبادتنا تعود علينا نحن بالخير في الدنيا والآخرة..
أن أفعال الله لا تعلل، والمأمور بالعبادة هو الذي سينتفع بها.
ولكن هل العبادة هي الجلوس في المساجد والتسبيح أم أنها منهج يشمل الحياة كلها.. في بيتك وفي عملك وفي السعي في الأرض؟.. ولو أراد الله سبحانه وتعالى من عباده الصلاة والتسبيح فقط.. لما خلقهم مختارين بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الإنس والجن.. والله تبارك وتعالى له صفة القهر.. من هنا فإنه يستطيع أن يجعل من يشاء مقهورا على عبادته.. مصداقا لقوله جل جلاله: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [سورة الشعراء].
فلو أراد الله أن يخضعنا لمنهجه قهرًا.. لا يستطيع أحد أن يشذ عن طاعته.. وقد أعطانا الله الدليل على ذلك بأن في أجسادنا وفي أحداث الدنيا.. ما نحن مقهورون عليه.. فالجسد مقهور لله في أشياء كثيرة. القلب ينبض ويتوقف بأمر الله دون إرادة منا.. والمعدة تهضم الطعام ونحن لا ندري عنها شيئا.. والدورة الدموية في أجسادنا لا إرادة لنا فيها.. وأشياء كثيرة في الجسد البشري كلها مقهورة لله سبحانه وتعالى.. وليس لإرادتنا دخل في عملها.. وما يقع على في الحياة من أحداث أنا مقهور فيه.. لا أستطيع أن أمنعه من الحدوث.. فلا أستطيع أن أمنع سيارة أن تصدمني.. ولا طائرة أن تحترق بي.. ولا كل ما يقع علي من أقدار الله في الدنيا..